محاضرة التشريح الأولى "حيثُ انتَظَرتُ الجُثث!"

كنت أظنّ الأمر بالسهولة التالية: أُقبَل في الكلّية ، تُسجّل لي مادّة التشريح ، أدخلُ المعمل لأجدَ الجُثّة ترقد في سلامٍ منتظرةً إيّاي أن أعبث فيها بمبضعٍ - لا أعرف حقيقةً كيفَ سأُمسكه في المستقبل بشمالي - ، ولكن الأمر لم يَكُن كذلك أبداً. في طريقي هذا: حتّى لقاءُ الجثث يتطلّبُ بعضَ العنَاء.

بدأتُ أتقبّل الأمر على مَضضٍ و أشكو لجميع من أراه "كيفَ لي أَن أدرس التشريح بلا جُثّة موضوعة أمامي؟". دخلتُ المحاضرة الأولى و فتنَني ذاكَ المنظَر. كطالبٍ لم يسبِق لكَ دخولُ الحرمِ الجامعي يحقّ لك أن تسلبَ قلبك الدهشة حين تنتقل من قاعة لا تتسع إلا لثلاثين مقعداً ، إلى مدرّج تشاركُه مع المِئات.

" إذاً أنا هُنا ، مع مائة و ثلاثون طالبة تشاركني حُلمي ، هنا تبدأ الأمور بالوقوع حقيقةً". تملّكتني الثقة بالنفس - وهي نفسها - التي أغفلتني عن رؤية الطبيبِ المُحاضر حين دخوله. وبحكمِ خبرتي في التعامل باللغة الإنجليزية - والتي تجاوزَت مدّتها يوماً و نِصف - كنتُ أعتقد أن الأمور ستكون سهلة - جداً -.

لم أدرِ متى بدأت الأمور تتعقّد و متى استُبدِلت الإنجليزية باللاتينية. ولم أعلم هل كانت سرعة الطبيب المُحاضر ملحوظة للجميع أم كنتُ أنا الوحيدة التي خذلتها ثِقتها. تِلك هي المحاضرة الأولى التي كانت حصيلتها هي "لا شيء من المعلومات" و "الكثيرَ الكثيرَ من الصّداع".

لم أكُن أعلمُ بأن خيبةَ الأمل ستعود مجدّداً و بهذه السرعة. خرجت و أنا أحمِلُ فوقَ قلبي همٌّ لا يكادُ يزولُ أبداً. كيفَ سأُكمل هذا الطريق إن كانت هذه هي أولى خطواتي تُشيرُ إليّ بفشلٍ ذريع؟

توالت الخيباتُ تباعاً ، أربع مرات كل أسبوع تحطّمني حتّى لم تذر مني سوى الفُتات. لم أكن أصدق كيف كانت الساعاتُ تمرّ و أنا أعتكفُ أمام أوراقٍ لا تنتهي ، تُنبّهني أمي بمواعيد وجباتي التي أصبحت وجبة واحدة ، تزاحمني أكواب القهوة التي لم أعد أجد مكاناً لما تبقّى منها ، القلق الذي صار يزاحم المعلومات في رأسي ، و مواعيد نومي التي صارت تسبق مواعيد استيقاظي بساعات ثلاث.

لم يكن هنالك شاهدٌ على جهدي سوى تلك الأوراق التي تكاد لا تجد فيها نقطة بيضاء تنظر فيها. بعدها: مرّ عامٌ كامل لم تخذُلني خلاله ثقتي أبداً.

نقطة في آخر السطر:
تجاهل خيباتِ أمَلك الأولى. قاتِل من أجل حلمِك بشراسة ، و كن على أتم الاستعداد لأن تضحّي بالكثير. تلك الحياة لم تعد ملكاً لك وحدك بعد الآن.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السنة الأولى: طب عام و جراحة - جامعة الملك فيصل

تجربة الدراسة: سنة ثالثة في كلية الطب

السنة التحضيرية: طب عام و جراحة - جامعة الملك فيصل